بسم الله الرحمن الر حيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين..
يعتمد العالم الرقمي على قيمتين أساسية لا ثالث لهما هما (الصفر والواحد) ومنهما تبنى كل النظريات والتطبيقات المعقدة جدا في هذا العالم المبني على مفهومين منطقيين هما (الإثبات والنفي).
وكما يظهر فإن التضاد هو السمة الرئيسية للعلاقة بين الصفر والواحد في العالم الرقمي داخل المنظومة الحاسوبية ويُعبر عنها بمرور التيار أو عدم مروره مما يؤدي إلى نتيجة منطقية بسيطة وهي استحالة حدوث كلتا الحالتين في وقت واحد.
هذه البداية الفلسفية المنطقية هي تمهيد لما أسميه معضلة (النقد الفني الخطي الرقمي) في مجال الخط العربي، فمن خلال الكثير من النقاشات والكتابات والأدبيات الخاصة بنقد الخط العربي نجد أن كثير من النقاد والمتذوقين والممارسين يقعون في فخ الانحياز التام إلى أحد وجهتي النظر المتطرفة إما بالمدح أو الذم، في حين أن الحقيقة التي لا مفر منها تقول بأن أي عمل نقدي يجب أن يتميز بالواقعية وعدم الانحياز والتجرد من العواطف والانطباعات الشخصية وإعمال الأدوات النقدية العلمية المعروفة كالوصف والتفسير والتقييم والتنظير والحكم، فنجد أغلب الآراء الفنية منحازة إلى خطاط أو مدرسة أو أسلوب معين دون غيرها بحيث يصبح من المعيب وغير المنطقي أن يتم انتقاد تصرف ما في لوحة لسامي أفندي مثلا أو تفضيل أسلوب حامد الآمدي في النسخ على أسلوب شوقي أفندي.
وللتوضيح أكثر فإن هذه المشكلة تظهر بجلاء عند الحديث عن المدارس الفنية الخطية العريقة كالمدرسة العثمانية والبغدادية والمصرية. ولأكون أكثر تحديدا سأذكر مثالا وهو النقد الموجه للمدرسة المصرية في الخط العربي، وهي التي اعتمدت بشكل كبير على غزارة الانتاج على حساب الاتقان الذي تتميز به المدرسة العثمانية مما يؤدي إلى إقصاء تام لكل مكونات هذه المدرسة عند الحديث عن الخط العربي وينعكس ذلك بشكل واضح في المسابقات الخطية الدولية التي كرست جل اهتمامها لتعزيز مفهوم الاتقان والالتزام بالقاعدة على حساب مفاهيم فنية مهمة مثل غزارة الانتاج والابداع.
هذه النوعية من النقد تمثل في رأيي نقدا رقميا (صفر أو واحد) حيث تتبنى مفهوم (إن لم تكن معي فأنت ضدي) فنجد كثيرا من النقاد والممارسين المعاصرين يدافعون عن مدارس وأعلام فنية خطية بشكل متعصب ويتناسون في خضم ذلك أن الجهد البشري منفتح لكل الاحتمالات الإيجابية والسلبية وأن الرأي النقدي غير ملزم ولا يمكن وصف رأي أو جهد فني معين بأنه (خطأ أو صواب) مطلق.
ومن المفارقات العجيبة أنه وحتى في العالم الرقمي أصبحت مسألة الانحياز التام لرأي معين أو ما أسميه (الحتمية) معضلة وعقبة عند تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة والتي تعتمد فعليا على التنبؤ Prediction وهو قيمة ترجيحية غير مطلقة تعطي انطباعا عن الصحة أو الخطأ بحيث تعتمد على ترجيح احتمال معين بناء على معطيات معينة وهو ما يمكن أن يتغير بناء على تغير تلك المعطيات.
فإذا كان الكمبيوتر نفسه قد أدرك أن العالم الحقيقي لا يعمل بطريقة الحقيقة المطلقة الحتمية ويحتاج لإعمال الفكر الترجيحي غير المنحاز لمجاراة التطور والتعددية والاختلاف، فإني لأرجو من الله العلي القدير أن نكون أذكى من مجموعة من البوابات الرقمية الاليكترونية وبعض البرمجيات ونعطي أحكاما أكثر إنسانية على الجهود البشرية وننتقل من النقد الفني الخطي الرقمي إلى النقد الفني الخطي الترجيحي.
سراج علاف
١٠ رمضان ١٤٤٦
مكة