التراتبية في عالم الخط العربي – في وداع الشيخ حسن جلبي

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين..

فجع المجتمع الخطي العالمي يوم أمس الاثنين الموافق ٢٤ فبراير ٢٠٢٥ برحيل علم من أعلام الخط العربي والفن الإسلامي والمعلم الأشهر حول العالم الشيخ الخطاط حسن جلبي رحمه الله والذي يعد حلقة الوصل الأهم بين  جيل الخطاطين الحالي وجيل الخطاطين العظماء في نهاية القرن العشرين. وعلى قدر ألم الرحيل وصعوبة الفراق فإن ردة الفعل التي رافقت الإعلان عن رحيله كانت استثنائية فعلا وتدعوا للغبطة والسرور. فقد رثاه المجتمع الخطي كاملا علي الرغم من أن الكثير منهم لم يلتق به يوما أو ألتقى به مرة أو مرتين كحالي أنا. فقد تشرفت بمقابلته رحمه الله في مقر أرسيكا يوم إعلان نتائج المسابقة الدولية في عام ٢٠١٣ في اسطنبول.

 

ردة فعل عظيمة كهذه لا تحدث بسهولة لأنها امتداد لمسيرة طويلة جدا من التفاني في خدمة هذا الفن وأهله.

وعلى مر العصور والأزمان فقد كانت التراتبية والمشيخة عنوانا لتطور فن الخط العربي وتحوله من أداة توثيقية بحتة إلى أداة معرفية وفنية معقدة أسهمت في تشكيل الوعي التاريخي عن الحقب الزمانية والجغرافية والاجتماعية المختلفة، فقد عرف التاريخ الإسلامي بروز عدد من المعلمين المعروفين الذي شكلوا نقاط إرتساء لتاريخ الخط العربي في رحلته عبر بحور التاريخ المتلاطمة وخاصة في أوقات الظلام الذي مر على الأمتين الإسلامية والعربية وأدت إلى انتكاسات طالت جميع نواحي الحياة ومنها الخط العربي. أي باحث أو دارس لتاريخ الخط العربي يعلم أن تطور الخط العربي ارتبط ارتباطا وثيقا بأسماء معينة ساهمت في حفظ هذا الفن وتطويره من خلال نشر أدبياته وفنياته عبر مجموعة كبيرة من الطلاب المجيدين والذين اقتفوا أثر أساتذتهم ومعلميهم ضمن منهجية صارمة  وملزمة ورصينة لأبعد الحدود.

فعلى سبيل المثال، تعد الإجازة في فن الخط العربي إحدى أبرز الممارسات التي شكلت درعا يحمي أدبيات الخط العربي من خلال منظومة إلتزام فني وأخلاقي عالي تشمل كلا من الأستاذ والطالب والمجتمع المحيط بهما. هذه الممارسة وضعت أساسا بهدف ضبط الجودة والحفاظ على حد أدنى من معايير الإتقان (بلغة اليوم) وذلك حرصا على مكاسب فن الخط العربي الفنية والمعرفية.

ولا تقتصر الملازمة والدراسة على النواحي الفنية المنهجية فقط ولكنها تمتد إلى نواحِ شخصية وأخلاقية تشكل علاقة إشرافية أبوية من جهة واحتراما وولاءً ابنويا من جهة أخرى، وهو ما يصعب وجوده في فنون ومعارف أخرى لا سيما في ظل تحول أنظمة التعليم إلى مؤسسات ترتبط بالمنهجيات والأنظمة أكثر من الأشخاص.

من ناحية أخرى قد يتعدى الأمر الملازمة الشخصية بين الطالب والعلم إلى الاعجاب الذي يبديه أحد الطلاب لمعلم سابق قد لا يكون قي إلتقى به فعليا ولكنه يلتزم فنيا ومنهجيا وأحيانا أخلاقيا بما تركه هذا المعلم من إرث فني ومعرفي ولنا في ما نقله الشيخ حمد الله الأماسي (١٤٣٦ – ١٥٢٠م) من علم قد استقاه من ياقوت المستعصمي (ت ١٢٩٨م) خير مثال من غير أن يكون بينهما لقاء فعلي.

دائما ما أذكر أنني محظوظ جدا بالتزامي على يد الأستاذ إبراهيم العرافي (معلم الخط العربي في الحرم المكي الشريف) ولفترة تزيد عن ٢٥ عام نهلت من خلالها من منهله العذب وتشرفت بنقل هذه المعارف إلى طلابي.

إن علاقة الخطاطين بأساتذتهم تمثل أحد أرقى النواحي الأخلاقية للثقافة العربية والإسلامية والتي تعبر عن جمال نفسي وحسي يظهر من خلال أعمال الخطاطين وذكر أساتذتهم وطلب الدعاء لهم وإبراز فضلهم وهو ما يمثل حالة فريدة ضمن نسيج الفنون ويعبر بلا شك عن الاحترام الكبير الذي يمثله الأستاذ في منظومة العلم.

سراج علاف

جدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *