أزمة الحروفية المعاصرة بين الجمالية والاستهلاكية

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ..

الحرف العربي كما أفهمه وكما عشته فنيًا وعلميًا ليس مجرّد شكل بصري، بل كيان روحي وجمالي يتجسد من خلال نظام دقيق وعلاقة وجدانية بين الخطاط والحرف.  لقد أمضيت سنوات في دراسة الخط العربي ليس فقط من زاوية فنية حرفية، بل أيضًا من خلال منظور الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة، وكيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتعلّم من البُنى الجمالية العميقة لهذا الفن وليس من خلال مظاهره السطحية فقط. ولذلك فأنا أجد صعوبة في تقبّل كثير من الممارسات الحروفية المعاصرة التي تستسهل الشكل وتُهمّش العمق.

لقد تحوّل الحرف عند البعض إلى مجرد أداة زخرفية، تُستدعى بصريًا لا دلاليًا من خلال أعمال تُنتج اليوم لا تُراعي البنية الجمالية العميقة للحرف، بل تكتفي بمحاكاة شكله، فتظهر أشكال تُشبه الحروف، لكنها لا تنتمي إليها حقًا. هذه الانفصالية تُفرغ الحرف من روحه، وتفصله عن سياقه الثقافي والجمالي والرمزي للدين واللغة، ليصبح مادة للعرض والزينة بدلا من التأمل والاستمتاع.

إن الخطر في هذه الممارسات لا يقتصر على تراجع المعايير الجمالية، بل يتعداه إلى تهديد الهوية الثقافية والبصرية العربية نفسها. فعندما يعتاد العامة على رؤية الحرف كقشرة زخرفية، يضعف ذلك ارتباطهم بهويتهم ولغتهم، وتُفقد الأجيال الجديدة حسّها بروح الحرف وعمقه الحضاري. والأسوأ من ذلك، أن هذه الأعمال غالبًا ما تُقدّم في مؤسسات فنية عالمية كممثل للفن العربي والإسلامي، في حين أنها لا تمت له بصلة سوى الشكل المشابه للحرف.

وتتعدد الأمثلة على هذا الاتجاه، حيث تنتشر أعمال تعتمد على حروف لا تُشكل كلمات، ولا تستند إلى نصوص ذات معنى، بل تُقدَّم كأنها زخارف هندسية أو تجريدات حركية. تُستخدم فيها الخطوط العربية المُشوّهة في لوحات، أو جداريات، أو حتى تصميمات رقمية، دون أي التزام بقواعد الخط أو فهم لطبيعته البنائية. وهي أعمال قد تُثير الانبهار اللحظي لكنها لا تُنتج أثرًا معرفيًا أو وجدانيًا عميقًا.

في مقابل ذلك، توجد تجارب جادة تجمع بين الحس الفني وروح الخط، حتى في سياقات معاصرة. هذه الأعمال تحترم البنية الأصلية للحرف، وتُبقي على علاقته بالنص والمعنى، وتُجدد دون أن تمحو، وتُضيف دون أن تُلغِي الجذور. مثل هذه التجارب تُعد استثناءً مشرفًا في مشهد باتت تهيمن عليه السطحية البصرية.

ومما يُؤسف له أن هذه الأعمال كثيرًا ما تُقدَّم بوصفها تجديدًا أو تحديثًا للخط العربي، بينما هي – في حقيقتها – التفاف على الطريق الوعر الذي سلكه الخطاطون على مر العصور. فالخط العربي لا يُكتسب إلا بالمجاهدة والممارسة الطويلة، وبتتلمذ حقيقي على يد من حملوا هذا الفن لسنوات وسنوات. أما أن يُختزل كل ذلك في ضربات فرشاة عشوائية أو تصميمات رقمية لا تفقه تركيب الحرف، فذلك ليس تجديدًا، بل مسخاً مشوهاً.

المشكلة في الحداثة بحد ذاتها، فأنا كباحث في الذكاء الاصطناعي أؤمن بأهمية التجديد والتطوير، بل وأُسهم فيه من خلال مشاريع تهدف إلى تعلّم الحروف وتكوينها آليًا بطريقة تحاكي أسسها الحقيقية. لكن الخطأ أن يتم التحديث على حساب الأصول، أو أن يُستبدل العمق بالتزييف، والتأمل بالتزيين.

ليس كل من استخدم الحرف العربي قد أنصفه. فثمة من اختزل الجمال في الشكل، ونزع عن الحرف قدسيته وعمقه، فحوّله إلى زخرفة خاوية. وما لم نعد لطرح السؤال الجوهري: لماذا نكتب؟ ولماذا نخطّ؟ وعلى أي روح نستند؟ سنبقى ننتج أعمالًا تحمل الحرف ظاهريا وتخونه جوهريا.

بين طريق الإتقان الذي سار عليه الخطاطون، وبين تكاسل الناس واستسهالهم وواقع الحياة المدنية الاستهلاكية الحديثة  يبقى التحدي الحقيقي في الحفاظ على الحرف العربي بوصفه رسالة وجوهرًا وروحًا من خلال استكشاف عوالم جديدة وأفاق واسعة دون الإخلال بالمنظومة التي حافظت على هذا الفن العظيم لما يربو على ١٤٠٠ عام.

سراج علاف

جدة

1 فكرة عن “أزمة الحروفية المعاصرة بين الجمالية والاستهلاكية”

  1. ولن نحافظ عليه إلا عن طريق زرع الوعي بأهمية الخط العربي و نشره بشكل مكثف بين أطياف المجتمع وبالذات لدى النشء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *