حين يفقد الفنان المسافة مع عمله: إشكالية التقدير الموضوعي

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ..

كان حضوري لمعرض ملتقى عزف الحروف لفنون الخط العربي بجدة الأسبوع الماضي تجربة ثرية على مستويات متعددة، ليس فقط من حيث ما رأيته من أعمال جميلة ومتنوعة، ولكن لأن المعرض أيقظ في داخلي فكرة كنت ألاحظها منذ فترة طويلة في الوسط الفني والخط العربي تحديدًا. مع كثرة ما رأيت من لوحات وتكوينات وأساليب مختلفة، لاحظت شيئًا أبعد من جمال الحرف أو التركيب؛ لاحظت الطريقة التي يتعامل بها بعض الخطاطين مع أعمالهم، وكيف يقدّرونها أو يحمّلونها قيمة قد لا تتطابق دائمًا مع ما يراه الآخرون.

المعرض كان مجرد شرارة، لكن الظاهرة أوسع بكثير. هناك فئة من الفنانين والخطاطين ترى في أعمالها ذروة الإبداع، لدرجة تجعلها تتحدث عنها كما لو كانت تحفًا فنية لا يطالها النقد ولا تحتمل النقاش. هذا الارتباط العاطفي العميق مفهوم وطبيعي، فالخطاط يقضي ساعات طويلة مع اللوحة، يتأمل أركانها ومساحاتها ويهذب تفاصيلها، حتى يصبح العمل بالنسبة له جزء من ذاته لا مجرد عمل فني. لكن عندما يتحول هذا الارتباط إلى يقين بكمال العمل، تبدأ الإشكالية الحقيقية، لأن الفنان حينها قد يفقد قدرته على رؤية نقاط الضعف أو فرص التطوير فيما يقدمه وبناء على ذلك يفقد أهم مكون للشخصية الفنية الحقيقية وهي القدرة على التجرد واستعمال أدوات النقد.

في المقابل، هناك أعمال أخرى ربما لم يبذل فيها أصحابها جهدًا تقنيًا خارقًا، لكنها تحمل روحًا مبتكرة وجرأة في الفكرة تجعلها أكثر قربًا من الجمهور (والذي في الغالب لا يمتلك أدوات النقد الفني المتخصص) وأكثر تأثيرًا في وجدان المتلقي. وهنا تظهر المفارقة: ما يهم الجمهور في النهاية ليس حجم التعب المبذول، بل أثر العمل ذاته. كثير من اللوحات التي حظيت بإعجاب واسع في الملتقى لم تكن الأكثر تعقيدًا في تفاصيلها، بل كانت تلك التي قدّمت شيئًا مختلفًا، أو زاوية نظر جديدة، أو إحساسًا صادقًا وصل بلا تكلف.

وهنا أنا لا أتحدث عن النزول إلى مستوى العامة وتلبية رغباتهم بحيث يصبح الخطاط (صنايعي) بل أتحدث عن التوازن والرؤية الشاملة للعمل الفني في سياق (أين وكيف ومتى وعلى من) سيعرض هذا العمل.

المشكلة أن المبالغة في تقدير العمل الشخصي لا تؤثر فقط على تقييم الفنان لأعماله، بل تمتد لتنعكس على صورته الذهنية لدى الآخرين. الفنان الذي يفرض على الجمهور أن يتعامل مع لوحاته باعتبارها تحفًا مكتملة يُفقد أعماله فرصة أن تُحاكَم بموضوعية، بل وربما يُفقد نفسه احترام المتلقي على المدى البعيد. بينما الفنان الحقيقي، الذي يدرك أن كل تجربة هي خطوة ضمن رحلة أطول، يكسب احترام الجمهور والنقاد معًا، لأنه يؤمن بأن مساحة النقد والمراجعة والنقاش الحر جزء أصيل من التجربة الفنية الرصينة.

العمل الفني يحتاج من صاحبه إلى وعي متوازن بين الحب والانفصال. من الطبيعي أن يحب الفنان عمله ويعتز به، لكن من الضروري أيضًا أن يفصل بين ذاته وما ينتجه، وأن يدرك أن الحرف ليس نهاية الطريق، بل إحدى محطاته. هذا الوعي وحده هو الذي يسمح بتلقي النقد بوصفه فرصة للنمو لا تهديدًا للذات، ويجعل كل تجربة منطلقًا لأفق أوسع، بدلاً من الاكتفاء بما تم الوصول إليه.

في النهاية، جمال الفن أنه لا يكتمل أبدًا. كل عمل، مهما بلغ إتقانه، يظل جزءًا من مسار مفتوح على الدهشة والبحث والاكتشاف. إدراك هذه الحقيقة يمنح الفنان حرية أكبر، ويجعل أعماله تتنفس بمعزل عن غروره، ويمنحه بدوره صورة أكثر صدقًا وعمقًا في أعين الآخرين.

أخيرا.. الرحلات المملة هي التي نصل فيها إلى وجهتنا.

سراج علاف

مكة المكرمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *